الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* الشرح: قوله (ما يكره من ثناء السلطان) الإضافة فيه للمفعول أي من الثناء على السلطان بحضرته، بقرينة قوله " وإذا خرج - أي من عنده - قال غير ذلك " ووقع عند ابن بطال " من الثناء على السلطان " وكذا عند أبي نعيم عن أبي أحمد الجرجاني عن الفربري، وقد تقدم معنى هذه الترجمة في أواخر " كتاب الفتن". " إذا قال عند قوم شيئا، ثم خرج فقال بخلافه " وهذه أخص من تلك. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أُنَاسٌ لِابْنِ عُمَرَ إِنَّا نَدْخُلُ عَلَى سُلْطَانِنَا فَنَقُولُ لَهُمْ خِلَافَ مَا نَتَكَلَّمُ إِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِمْ قَالَ كُنَّا نَعُدُّهَا نِفَاقًا الشرح: قوله (قال أناس لابن عمر) قلت سمي منهم عروة بن الزبير ومجاهد وأبو إسحاق الشيباني، ووقع عند الحسن بن سفيان من طريق معاذ عن عاصم عن أبيه " دخل رجل على ابن عمر " أخرجه أبو نعيم من طريقه. قوله (إنا ندخل على سلطاننا) في رواية الطيالسي عن عاصم " سلاطيننا " بصيغة الجمع. قوله (فيقول لهم) أي نثني عليهم، في رواية الطيالسي فنتكلم بين أيديهم بشيء ووقع عند ابن أبي شيبة من طريق أبي الشعثاء قال دخل قوم على ابن عمر فوقعوا في يزيد بن معاوية فقال: " أتقولون هذا في وجوههم؟ قالوا بل نمدحهم ونثني عليهم " وفي رواية عروة بن الزبير عند الحارث بن أبي أسامة والبيهقي قال " أتيت ابن عمر فقلت إنا نجلس إلى أئمتنا هؤلاء فيتكلمون في شيء نعلم أن الحق غيره فنصدقهم، فقال: كنا نعد هذا نفاقا، فلا أدري كيف هو عندكم " لفظ البيهقي في رواية الحارث " يا أبا عبد الرحمن إنا ندخل على الإمام يقضي بالقضاء نراه جورا فنقول تقبل الله، فقال: إنا نحن معاشر محمد " فذكر نحوه. وفي " كتاب الإيمان لعبد الرحمن بن عمر الأصبهاني بسنده عن عريب الهمداني " قلت لابن عمر " فذكر نحوه وعريب بمهملة وموحدة وزن عظيم، وللخرائطي في " المساوي " من طريق الشعبي " قلت لابن عمر: إنا ندخل على أمرائنا فنمدحهم، فإذا خرجنا قلنا لهم خلاف ذلك فقال كنا نعد هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفاقا " وفي مسند مسدد من رواية يزيد بن أبي زياد عن مجاهد " أن رجلا قدم على ابن عمر فقال له: كيف أنتم وأبو أنيس الضحاك بن قيس قال: إذا لقيناه قلنا له ما يحب، وإذا ولينا عنه قلنا له غير ذلك، قال: ذاك ما كنا نعده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من النفاق " وفي الأوسط للطبراني من طريق الشيباني يعني أبا إسحاق وسليمان بن فيروز الكوفي. قوله (كنا نعدها) بضم العين من العد هكذا اختصره أبو ذر، وله عن الكشميهني " نعد هذا " وعند غير أبي ذر مثله وزادوا " نفاقا " وعند ابن بطال " ذلك " بدل " هذا ومثله للإسماعيلي من طريق يزيد بن هارون عن عاصم بن محمد " وعنده " من النفاق " وزاد: قال عاصم: فسمعني أخي - يعني عمر - أحدث بهذا الحديث " فقال: قال أبي قال ابن عمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " وكذا أخرجه الطيالسي في مسنده عن عاصم بن محمد إلى قوله " نفاقا " قال عاصم: فحدثني أخي عن أبي أن ابن عمر قال " كنا نعده نفاقا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " ووقع في " الأطراف للمزي " ما نصه " خ في الأحكام عن أبي نعيم عن عاصم بن محمد بن زيد عن أبيه به " قال ورواه معاذ بن معاذ عن عاصم وقال في آخره " فحدثت به أخي عمر فقال: إن أباك كان يزيد فيه: في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قوله " وقال معاذ إلى آخره: لم يذكره أبو مسعود، فيحتمل أن يكون نقله من كتاب خلف، ولم أره في شيء من الروايات التي وقعت لنا عن الفربري ولا غيره عن البخاري وقد قال الإسماعيلي: عقب الزيادة المذكورة ليس في حديث البخاري " على عهد رسول الله". الحديث: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عِرَاكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ ذُو الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ الشرح: قوله (عن يزيد بن أبي حبيب) هو المصري من صغار التابعين. قوله (عن عراك) بكسر العين المهملة وتخفيف الراء وآخره كاف هو ابن مالك الغفاري المدني، فالسند دائر بين مصري ومدني. قوله (إن شر الناس ذو الوجهين) تقدم في " باب ما قيل في ذي الوجهين " من " كتاب الأدب " من وجه آخر عن أبي هريرة بلفظ " من شر الناس " وتقدم شرحه وسائر فوائده هناك. وتعرض ابن بطال هنا لذكر ما يعارض ظاهره من قوله صلى الله عليه وسلم للذي استأذن عليه " بئس أخو العشيرة، فلما دخل ألان له القول " وتكلم على الجمع بينهما، وحاصله أنه حيث ذمه كان لقصد التعريف بحاله وحيث تلقاه بالبشر كان لتأليفه أو لاتقاء شره، فما قصد بالحالتين إلا نفع المسلمين. ويؤيده أنه لم يصفه في حال لقائه بأنه فاضل ولا صالح، وقد تقدم الكلام عليه أيضا في " باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا " من " كتاب الأدب " وتقدم فيه أيضا بيان ما يجوز من الاغتياب في " باب آخر بعد ذلك". *3* الشرح: قوله (القضاء على الغائب) أي في حقوق الآدميين دون حقوق الله بالاتفاق، حتى لو قامت البينة على غائب بسرقة مثلا، حكم بالمال دون القطع، قال ابن بطال: أجاز مالك والليث والشافعي وأبو عبيد وجماعة الحكم على الغائب، واستثنى ابن القاسم عن مالك ما يكون للغائب فيه حجج كالأرض والعقار إلا إن طالت غيبته أو انقطع خبره، وأنكر ابن الماجشون صحة ذلك عن مالك وقال: " العمل بالمدينة على الحكم على الغائب مطلقا حتى لو غاب بعد أن توجه عليه الحكم قضي عليه " وقال ابن أبي ليلى وأبو حنيفة: " لا يقضي على الغائب مطلقا. وأما من هرب أو استتر بعد إقامة البينة فينادي القاضي عليه ثلاثا فإن جاء وإلا أنفذ الحكم عليه " وقال ابن قدامة: أجازه أيضا ابن شبرمة والأوزاعي وإسحاق وهو أحد الروايتين عن أحمد، ومنعه أيضا الشعبي والثوري وهي الرواية الأخرى عن أحمد قال: " واستثنى أبو حنيفة من له وكيل مثلا، فيجوز الحكم عليه بعد الدعوى على وكيله " واحتج من منع بحديث على رفعه " لا تقضي لأحد الخصمين حتى تسمع من الآخر " وهو حديث حسن، أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما، وبحديث " الأمر بالمساواة بين الخصمين، وبأنه لو حضر لم تسمع بينة المدعي حتى يسأل المدعى عليه فإذا غاب فلا تسمع، وبأنه لو جاز الحكم مع غيبته لم يكن الحضور واجبا عليه " وأجاب من أجاز: بأن ذلك كله لا يمنع الحكم على الغائب لأن حجته إذا حضر قائمة فتسمع ويعمل بمقتضاها ولو أدى إلى نقض الحكم السابق، وحديث على محمول على الحاضرين. وقال ابن العربي: حديث علي، إنما هو مع إمكان السماع فأما مع تعذره بمغيب فلا يمنع الحكم، كما لو تعذر بإغماء أو جنون أو حجر أو صغر، وقد عمل الحنفية بذلك في الشفعة والحكم على من عنده للغائب مال أن يدفع منه " نفقة زوج الغائب". ثم ذكر المصنف حديث عائشة في قصة هند، وقد احتج بها الشافعي وجماعة لجواز القضاء على الغائب، وتعقب بأن أبا سفيان كان حاضرا في البلد، وتقدم بيان ذلك مستوفى في " كتاب النفقات " مع شرح الحديث المذكور ولله الحمد. وذكر ابن التين فيه من الفوائد غير ما تقدم " خروج المرأة في حوائجها، وإن صوتها ليس بعورة". قلت: وفي كل منهما نظر، وأما الأول فلأنه جاء أن هندا كانت جاءت للبيعة فوقع ذكر النفقة تبعا. وأما الثاني فحال الضرورة مستثنى وإنما النزاع حيث لا ضرورة. *3* فَإِنَّ قَضَاءَ الْحَاكِمِ لَا يُحِلُّ حَرَامًا وَلَا يُحَرِّمُ حَلَالًا الشرح: قوله (باب) بالتنوين " من قضى له " بضم أوله " بحق أخيه " أي خصمه فهي أخوة بالمعنى الأعم وهو الجنس لأن المسلم والذمي والمعاهد والمرتد في هذا الحكم سواء، فهو مطرد في الأخ من النسب ومن الرضاع وفي الدين وغير ذلك، ويحتمل أن يكون تخصيص الأخوة بالذكر من باب التهييج، وإنما عبر بقوله بحق أخيه مراعاة للفظ الخبر ولذلك قال: " فلا يأخذه " لأنه بقية الخبر، وهذا اللفظ وقع في رواية هشام بن عروة عن أبيه، وقد تقدم في ترك الحيل من طريق الثوري عنه. قوله (فإن قضاء الحاكم لا يحل حراما ولا يحرم حلالا) هذا الكلام أخذه من قول الشافعي فإنه لما ذكر هذا الحديث قال " فيه دلالة على أن الأمة، إنما كلفوا القضاء على الظاهر " وفيه " أن قضاء القاضي لا يحرم حلالا ولا يحل حراما". الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَمِعَ خُصُومَةً بِبَابِ حُجْرَتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَأَقْضِي لَهُ بِذَلِكَ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَتْرُكْهَا الشرح: قوله (عن صالح) هو ابن كيسان وصرح به في رواية الإسماعيلي. قوله (سمع خصومة) في رواية شعيب عن الزهري " سمع جلبة خصام " والجلبة بفتح الجيم واللام: اختلاط الأصوات، ووقع في رواية يونس عند مسلم " جلبة خصم " بفتح الخاء وسكون الصاد، وهو اسم مصدر يستوي فيه الواحد والجمع والمثنى مذكرا ومؤنثا ويجوز جمعه وتثنيته كما في رواية الباب " خصوم " وكما في قوله تعالى: {هذان خصمان} ولمسلم من طريق معمر عن هشام " لجبة " بتقديم اللام على الجيم، وهي لغة فيها فأما الخصوم فلم أقف على تعيينهم ووقع التصريح بأنهما كانا اثنين في رواية عبد الله بن رافع عن أم سلمة عند أبي داود ولفظه " أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان يختصمان " وأما الخصومة فبين في رواية عبد الله بن رافع أنها كانت " في مواريث لهما " وفي لفظ عنده " في مواريث وأشياء قد درست". قوله (بباب حجرته) في رواية شعيب ويونس عند مسلم " عند بابه " والحجرة المذكورة هي منزل أم سلمة ووقع عند مسلم في رواية معمر " بباب أم سلمة". قوله قوله (وأنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض) في رواية سفيان الثوري " في ترك الحيل، وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض " ومثله لمسلم من طريق أبي معاوية وتقدم البحث في المراد بقوله ألحن في ترك الحيل. قوله (فأحسب أنه صادق) هذا يؤذن أن في الكلام حذفا تقديره " وهو في الباطن كاذب " وفي رواية معمر " فأظنه صادقا". قوله (فأقضي له بذلك) في رواية أبي داود من طريق الثوري " فأقضى له عليه على نحو مما أسمع " ومثله في رواية أبي معاوية وفي رواية عبد الله بن رافع " إني إنما أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل علي فيه". قوله (فمن قضيت له بحق مسلم) في رواية مالك ومعمر " فمن قضيت له بشيء من حق أخيه " وفي رواية الثوري " فمن قضيت له من أخيه شيئا " وكأنه ضمن قضيت معنى " أعطيت " ووقع عند أبي داود عن محمد بن كثير شيخ البخاري فيه " فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه " وفي رواية عبد الله بن رافع عند الطحاوي والدار قطني " فمن قضيت له بقضية أراها يقطع بها قطعة ظلما فإنما يقطع له بها قطعة من نار إسطاما يأتي بها في عنقه يوم القيامة " والإسطام بكسر الهمزة وسكون المهملة والطاء المهملة " قطعة " فكأنها للتأكيد. قوله (فإنما هي) الضمير للحالة أو القصة. قوله (قطعة من النار) أي " الذي قضيت له به " بحسب الظاهر إذا كان في الباطن لا يستحقه فهو عليه حرام يئول به إلى النار، وقوله قطعة من النار، تمثيل يفهم منه شدة التعذيب على من يتعاطاه فهو من مجاز التشبيه كقوله تعالى قوله (فيأخذها أو ليتركها) في رواية يونس " فليحملها أو ليذرها " وفي رواية مالك عن هشام " فلا يأخذه " فإنما أقطع له " قطعة من النار " قال الدار قطني: هشام وإن كان ثقة لكن الزهري أحفظ منه، وحكاه الدار قطني عن شيخه أبي بكر النيسابوري. قلت: ورواية الزهري ترجع إلى رواية هشام فإن الأمر فيه للتهديد لا لحقيقة التخيير، بل هو كقوله. (تنبيه) : زاد عبد الله بن رافع في آخر الحديث " فبكى الرجلان. وقال كل منهما حقي لك فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم أما إذا فعلتما فاقتسما وتوخيا الحق، ثم استهما، ثم تحاللا " وفي هذا الحديث من الفوائد إثم من خاصم في باطل حتى استحق به في الظاهر شيئا هو في الباطل حرام عليه وفيه " أن من ادعى مالا ولم يكن له بينة، فحلف المدعى عليه وحكم الحاكم ببراءة الحالف، أنه لا يبرأ في الباطن، وأن المدعي لو أقام بينة بعد ذلك تنافي دعواه سمعت وبطل الحكم " وفيه " أن من احتال لأمر باطل بوجه من وجوه الحيل حتى يصير حقا في الظاهر ويحكم له به أنه لا يحل له تناوله في الباطن ولا يرتفع عنه الإثم بالحكم " وفيه " أن المجتهد قد يخطئ فيرد به على من زعم أن كل مجتهد مصيب " وفيه " أن المجتهد إذا أخطأ لا يلحقه إثم بل يؤجر " كما سيأتي وفيه " أنه صلى الله عليه وسلم كان يقضي بالاجتهاد فيما لم ينزل عليه فيه شيء وخالف في ذلك قوم " وهذا الحديث من أصرح ما يحتج به عليهم، وفيه " أنه ربما أداه اجتهاده إلى أمر فيحكم به ويكون في الباطن بخلاف ذلك لكن مثل ذلك لو وقع لم يقر عليه صلى الله عليه وسلم لثبوت عصمته " واحتج من منع مطلقا بأنه لو جاز وقوع الخطأ في حكمه للزم أمر المكلفين بالخطأ لثبوت الأمر باتباعه في جميع أحكامه، حتى قال تعالى وأجيب بأن ذلك يستلزم الحكم الشرعي فيعود الإشكال كما كان، ومن حجج من أجاز ذلك قوله صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم " فيحكم بإسلام من تلفظ بالشهادتين - ولو كان في نفس الأمر يعتقد خلاف ذلك - والحكمة في ذلك مع أنه كان يمكن اطلاعه بالوحي على كل حكومة أنه لما كان مشرعا، كان يحكم بما شرع للمكلفين ويعتمده الحكام بعده، ومن ثم قال " إنما أنا بشر " أي " في الحكم بمثل ما كلفوا به " وإلى هذه النكتة أشار المصنف بإيراده حديث عائشة في قصة ابن وليدة زمعة حيث حكم صلى الله عليه وسلم بالولد لعبد بن زمعة وألحقه بزمعة، ثم لما رأى شبهة بعتبة أمر سودة أن تحتجب منه احتياطا، ومثله قوله في قصة المتلاعنين لما وضعت التي لو عنت ولدا يشبه الذي رميت به " لولا الإيمان لكان لي ولها شأن " فأشار البخاري إلى أنه صلى الله عليه وسلم حكم في ابن وليدة زمعة بالظاهر، ولو كان في نفس الأمر ليس من زمعة ولا يسمى ذلك خطأ في الاجتهاد، ولا هو من موارد الاختلاف في ذلك، وسبقه إلى ذلك الشافعي فإنه لما تكلم على حديث الباب قال: " وفيه أن الحكم بين الناس يقع على ما يسمع من الخصمين بما لفظوا به وإن كان يمكن أن يكون في قلوبهم غير ذلك، وأنه لا يقضي على أحد بغير ما لفظ به " فمن فعل ذلك فقد خالف كتاب الله وسنة نبيه قال: " ومثل هذا قضاؤه لعبد بن زمعة بابن الوليدة، فلما رأى الشبه بينا بعتبة قال احتجبي منه يا سودة انتهى. ولعل السر في قوله وفيه البحث، والآخر " ما يبطنه الخصم ولا يطلع عليه إلا الله ومن شاء من رسله " فلم يقع التكليف به. قال الطحاوي: ذهب قوم إلى أن الحكم بتمليك مال أو إزالة ملك أو إثبات نكاح أو فرقة أو نحو ذلك، إن كان في الباطن كما هو في الظاهر نفذ على ما حكم به، وإن كان في الباطن على خلاف ما استند إليه الحاكم من الشهادة أو غيرها لم يكن الحكم موجبا للتمليك ولا الإزالة ولا النكاح ولا الطلاق ولا غيرها، وهو قول الجمهور، ومعهم أبو يوسف، وذهب آخرون إلى أن الحكم إن كان في مال، وكان الأمر في الباطن بخلاف ما استند إليه الحاكم من الظاهر، لم يكن ذلك موجبا لحله للمحكوم له وإن كان في نكاح أو طلاق فإنه ينفذ باطنا وظاهرا، وحملوا حديث الباب على ما ورد فيه وهو المال واحتجوا لما عداه بقصة المتلاعنين فإنه صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين مع احتمال أن يكون الرجل قد صدق فيما رماها به، قال: فيؤخذ من هذا أن " كل قضاء ليس فيه تمليك مال أنه على الظاهر ولو كان الباطن بخلافه " وأن حكم الحاكم يحدث في ذلك التحريم والتحليل بخلاف الأموال، وتعقب بأن الفرقة في اللعان إنما وقعت عقوبة للعلم بأن أحدهما كاذب، وهو أصل برأسه فلا يقاس عليه، وأجاب غيره من الحنفية بأن ظاهر الحديث يدل على أن ذلك مخصوص بما يتعلق بسماع كلام الخصم حيث لا بينة هناك ولا يمين، وليس النزاع فيه وإنما النزاع في الحكم المرتب على الشهادة وبأن " من " في قوله فمن قضيت له شرطية - وهي لا تستلزم الوقوع - فيكون من فرض ما لم يقع وهو جائز فيما تعلق به غرض وهو هنا محتمل لأن يكون للتهديد والزجر عن الإقدام على أخذ أموال الناس باللسن والإبلاغ في الخصومة، وهو وإن جاز أن يستلزم عدم نفوذ الحكم باطنا في العقود والفسوخ لكنه لم يسق لذلك فلا يكون فيه حجة لمن منع وبأن الاحتجاج به يستلزم أنه صلى الله عليه وسلم يقر على الخطأ لأنه لا يكون ما قضى به " قطعة من النار " إلا إذا استمر الخطأ، وإلا فمتى فرض أنه يطلع عليه فإنه يجب أن يبطل ذلك الحكم ويرد الحق لمستحقه، وظاهر الحديث يخالف ذلك، فإما أن يسقط الاحتجاج به ويؤول على ما تقدم، وإما أن يستلزم استمرار التقرير على الخطأ وهو باطل، والجواب عن الأول: أنه خلاف الظاهر، وكذا الثاني، والجواب عن الثالث: أن الخطأ الذي لا يقر عليه هو الحكم الذي صدر عن اجتهاده فيما لم يوح إليه فيه، وليس النزاع فيه وإنما النزاع في الحكم الصادر منه بناء على شهادة زور أو يمين فاجرة فلا يسمى خطأ للاتفاق على وجوب العمل بالشهادة وبالإيمان، وإلا لكان الكثير من الأحكام يسمى خطأ وليس كذلك، كما تقدمت الإشارة إليه في حديث " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " وحديث " إني لم أؤمر بالتنقيب عن قلوب الناس " وعلى هذا فالحجة من الحديث ظاهرة في شمول الخبر: الأموال والعقود والفسوخ والله أعلم. ومن ثم قال الشافعي " إنه لا فرق في دعوى حل الزوجة لمن أقام بتزويجها بشاهدي زور وهو يعلم بكذبهما، وبين من ادعى على حر أنه في ملكه " وأقام بذلك شاهدي زور، وهو يعلم حريته، فإذا حكم له الحاكم بأنه ملكه لم يحل له أن يسترقه بالإجماع قال النووي: والقول بأن حكم الحاكم يحل ظاهرا وباطنا مخالف لهذا الحديث الصحيح، وللإجماع السابق على قائلة ولقاعدة أجمع العلماء عليها ووافقهم القائل المذكور، وهو " أن الإبضاع أولى بالاحتياط من الأموال " وقال ابن العربي: إن كان حاكما نفذ على المحكوم له أو عليه " وإن كان مفتيا لم يحل، فإن كان المفتى له مجتهدا يرى بخلاف ما أفتاه به لم يجز، وإلا جاز " والله أعلم. قال: ويستفاد من قوله " وتوخيا الحق جواز الإبراء من المجهول، لأن التوخي لا يكون في المعلوم " وقال القرطبي: شنعوا على من قال ذلك قديما وحديثا لمخالفة الحديث الصحيح؛ " ولأن فيه صيانة المال وابتذال الفروج، وهي أحق أن يحتاط لها وتصان " واحتج بعض الحنفية بما جاء عن علي " أن رجلا خطب امرأة فأبت فادعى أنه تزوجها وأقام شاهدين، فقالت المرأة أنهما شهدا بالزور، فزوجني أنت منه فقد رضيت، فقال: شهداك زوجاك، وأمضى عليها النكاح " وتعقب بأنه لم يثبت عن علي، واحتج المذكور من حيث النظر بأن الحاكم قضى بحجة شرعية فيما له ولاية الإنشاء فيه فجعل الإنشاء تحرزا عن الحرام، والحديث صريح في المال وليس النزاع فيه، فإن القاضي لا يملك دفع مال زيد إلى عمرو، ويملك إنشاء العقود والفسوخ، فإنه يملك بيع أمة زيد مثلا من عمرو حال خوف الهلاك للحفظ وحال الغيبة، ويملك إنشاء النكاح على الصغيرة، والفرقة على العينين، فيجعل الحكم إنشاء احترازا عن الحكم، ولأنه لو لم ينفذ باطنا فلو حكم بالطلاق لبقيت حلالا للزوج الأول باطنا وللثاني ظاهرا، فلو ابتلى الثاني مثل ما ابتلى الأول حلت للثالث، وهكذا فتحل لجمع متعدد في زمن واحد، ولا يخفى فحشة بخلاف ما إذا قلنا بنفاذه باطنا فإنها لا تحل إلا لواحد، انتهى وتعقب بأن الجمهور إنما قالوا في هذا: تحرم على الثاني مثلا إذا علم أن الحكم ترتب على شهادة الزور، فإذا اعتمد الحكم وتعمد الدخول بها فقد ارتكب محرما كما لو كان الحكم بالمال فأكله، ولو ابتلى الثاني كان حكم الثالث كذلك والفحش إنما لزم من الإقدام على تعاطي المحرم، فكان كما لو زنوا ظاهرا واحدا بعد واحد. وقال ابن السمعاني: شرط صحة الحكم وجود الحجة وإصابة المحل، وإذا كانت البينة في نفس الأمر شهود زور لم تحصل الحجة، لأن حجة الحكم هي البينة العادلة فإن حقيقة الشهادة إظهار الحق؛ وحقيقة الحكم إنفاذ ذلك، وإن كان الشهود كذبة لم تكن شهادتهم حقا، قال " فإن احتجوا بأن القاضي حكم بحجة شرعية أمر الله بها وهي البينة العادلة في علمه ولم يكلف بالإطلاع على صدقهم في باطن الأمر، فإذا حكم بشهادتهم فقد امتثل ما آمر به فلو قلنا لا ينفذ في باطن الأمر للزم إبطال ما وجب بالشرع لأن صيانة الحكم عن الأبطال مطلوبة فهو بمنزلة القاضي في مسألة اجتهادية على مجتهد لا يعتقد ذلك فإنه يجيب عليه قبول ذلك وإن كان لا يعتقده صيانة للحكم " وأجاب ابن السمعاني. بأن هذه الحجة للنفوذ ولهذا لا يأثم القاضي وليس من ضرورة وجوب القضاء نفوذ القضاء حقيقة في باطن الأمر، وإنما يجب صيانة القضاء عن الإبطال إذا صادف حجة صحيحة والله أعلم. فرع: لو كان المحكوم له يعتقد خلاف ما حكم له به الحاكم، هل يحل له أخذ ما حكم له به أو لا؟ كمن مات ابن ابنه وترك أخا شقيقا فرفعه لقاض يرى في الجد رأى أبي بكر الصديق، فحكم له بجميع الإرث دون الشقيق، وكان الجد المذكور يرى رأي الجمهور، نقل ابن المنذر عن الأكثر أنه " يجب على الجد أن يشارك الأخ الشقيق " عملا بمعتقده والخلاف في المسألة مشهور، واستدل بالحديث لمن قال " إن الحاكم لا يحكم بعلمه " بدليل الحصر في قوله " إنما أقضي له بما أسمع " وقد تقدم البحث فيه قبل، وفيه: إن التعمق في البلاغة بحيث يحصل اقتدار صاحبها على تزيين الباطل في صورة الحق وعكسه مذموم، فإن المراد بقوله " أبلغ " أي أكثر بلاغة " ولو كان ذلك في التوصل إلى الحق لم يذم وإنما يذم من ذلك ما يتوصل به إلى الباطل في صورة الحق، فالبلاغة إذن لا تذم لذاتها وإنما تذم بحسب التعلق الذي يمدح بسببه وهي في حد ذاتها ممدوحة، وهذا كما يذم صاحبها إذا طرأ عليه بسببها الإعجاب، وتحقير غيره ممن لم يصل إلى درجته ولا سيما إن كان الغير من أهل الصلاح فإن البلاغة إنما تذم من هذه الحيثية بحسب ما ينشأ عنها من الأمور الخارجية عنها، ولا فرق في ذلك بين البلاغة وغيرها بل كل فتنة توصل إلى المطلوب محمودة في حد ذاتها وقد تذم أو تمدح بحسب متعلقها، واختلف في تعريف البلاغة فقيل: أن يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه، وقيل: إيصال المعنى إلى الغير بأحسن لفظ، وقيل: الإيجاز مع الإفهام والتصرف من غير إضمار، وقيل: قليل لا يبهم وكثير لا يسأم؛ وقيل: إجمال اللفظ واتساع المعنى، وقيل: تقليل اللفظ وتكثير المعنى، وقيل: حسن الإيجاز مع إصابة المعنى، وقيل: سهولة اللفظ مع البديهة، وقيل: لمحة دالة أو كلمة تكشف عن البغية، وقيل: الإيجاز من غير عجز والإطناب من غير خطأ، وقيل: النطق في موضعه والسكوت في موضعه، وقيل معرفة الفصل والوصل، وقيل: الكلام الدال أوله على آخره وعكسه. وهذا كله عن المتقدمين، وعرف أهل المعاني والبيان البلاغة: بأنها " مطابقة الكلام لمقتضى الحال والفصاحة " وهي خلوه عن التعقيد. وقالوا المراد بالمطابقة: ما يحتاج إليه المتكلم بحسب تفاوت المقامات، كالتأكيد وحذفه، والحذف وعدمه، أو الإيجاز والإسهاب ونحو ذلك، والله أعلم. وفيه الرد على من حكم بما يقع في خاطره من غير استناد إلى أمر خارجي من بينة ونحوها، واحتج بأن الشاهد المتصل به أقوى من المنفصل عنه ووجه الرد عليه كونه صلى الله عليه وسلم أعلى في ذلك من غيره مطلقا، ومع ذلك فقد دل حديثه هذا على أنه إنما يحكم بالظاهر في الأمور العامة فلو كان المدعي صحيحا لكان الرسول أحق بذلك، فإنه أعلم إنه تجري الأحكام على ظاهرها، ولو كان يمكن أن الله يطلعه على غيب كل قضية، وسبب ذلك أن تشريع الأحكام واقع على يده فكأنه أراد تعليم غيره من الحكام أن يعتمدوا ذلك. نعم: لو شهدت البينة مثلا بخلاف ما يعلمه علما حسيا بمشاهدة أو سماع، يقينيا أو ظنيا راجحا لم يجز له أن يحكم بما قامت به البينة، ونقل بعضهم الاتفاق وإن وقع الاختلاف في القضاء بالعلم، كما تقدم في " باب الشهادة " تكون عند الحاكم في ولايته القضاء، وفي الحديث أيضا: موعظة الإمام الخصوم ليعتمدوا الحق والعمل بالنظر الراجح وبناء الحكم عليه وهو أمر إجماعي للحام والمفتي، والله سبحانه وتعالى أعلم. *3* الشرح: قول (باب الحكم في البئر ونحوها) ذكر فيه حديث عبد الله - وهو ابن مسعود - في نزول قوله تعالى الحديث: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ وَالْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحْلِفُ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ مَالًا وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ إِلَّا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا الْآيَةَ فَجَاءَ الْأَشْعَثُ وَعَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُهُمْ فَقَالَ فِيَّ نَزَلَتْ وَفِي رَجُلٍ خَاصَمْتُهُ فِي بِئْرٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَكَ بَيِّنَةٌ قُلْتُ لَا قَالَ فَلْيَحْلِفْ قُلْتُ إِذًا يَحْلِفُ فَنَزَلَتْ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ الْآيَةَ الشرح: قال ابن بطال: هذا الحديث حجة في أن حكم الحاكم في الظاهر لا يحل الحرام ولا يبيح المحظور، لأنه صلى الله عليه وسلم حذر أمته عقوبة من اقتطع من حق أخيه شيئا بيمين فاجرة، والآية المذكورة من أشد وعيد جاء في القرآن، فيؤخذ من ذلك أن من تحيل على أخيه وتوصل إلى شيء من حقه بالباطل فإنه لا يحل له لشدة الإثم فيه، قال ابن المنير: وجه دخول هذه الترجمة في القصة مع أنه لا فرق بين البئر والدار والعبد حتى ترجم على البئر وحدها، أنه أراد الرد على من زعم أن الماء لا يملك، فحقق بالترجمة أنه يملك لوقوع الحكم بين المتخاصمين فيها، انتهى. وفيه نظر من وجهين أحدهما: أنه لم يقتصر في الترجمة على البئر بل قال ونحوها، والثاني: لو اقتصر لم يكن فيه حجة على من منع بيع الماء لأنه يجوز بيع البئر ولا يدخل الماء، وليس في الخبر تصريح بالماء فكيف يصح الرد.
*3* وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ شُبْرُمَةَ الْقَضَاءُ فِي قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ سَوَاءٌ الشرح: قوله (باب) بالتنوين (القضاء في قليل المال وكثيره سواء) قال ابن المنير: كأنه خشي غائلة لتخصيص في الترجمة التي قبل هذه " فترجم بأن القضاء عام في كل شيء: قل أو جل " ثم ذكر فيه حديث أم سلمة المذكور قبل بباب، لقوله فيه فمن قضيت له بحق مسلم وهو يتناول القليل والكثير، وكأنه أشار بهذه الترجمة إلى الرد على من قال " إن للقاضي أن يستنيب بعض من يريد في بعض الأمور دون بعض، بحسب قوة معرفته ونفاذ كلمته في ذلك " وهو منقول عن بعض المالكية، أو على من قال: " لا يجب اليمين إلا في قدر معين من المال، ولا تجب في الشيء التافه أو على من كان من القضاة لا يتعاطى الحكم في الشيء التافه، بل إذا رفع إليه رده إلى نائبه مثلا " قاله ابن المنير، قال: وهو نوع من الكبر، والأول أليق بمراد البخاري. قوله (وقال ابن عيينة) هو سفيان الهلالي (عن ابن شبرمة) هو عبد الله الضبي (القضاء في قليل المال وكثيره سواء) ولم يقع لي هذا الأثر موصولا. *3* وَقَدْ بَاعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدَبَّرًا مِنْ نُعَيْمِ بْنِ النَّحَّامِ الشرح: قوله (باب بيع الإمام على الناس أموالهم وضياعهم) قال ابن المنير: " أضاف البيع إلى الإمام ليشير إلى أن ذلك يقع في مال السفيه أو في وفاء دين الغائب أو من يمتنع أو غير ذلك " ليتحقق أن للإمام التصرف في عقود الأموال في الجملة. قوله (وقد باع النبي صلى الله عليه وسلم مدبرا من نعيم بن النحام) قال ابن المنير: ذكر في الترجمة الضياع ولم يذكر إلا بيع العبد، فكأنه أشار إلى قياس العقار على الحيوان ثم أسند حديث جابر قال " بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا من أصحابه أعتق غلاما له عن دبر لم يكن له مال غيره، فباعه بثمانمائة درهم ثم أرسل بثمنه إليه " وقد مضى شرحه في " كتاب العتق " ووقع هنا للكشميهني " عن دين " بفتح الدال وسكون التحتانية بعدها نون، بدل قوله " عن دبر " بضم الدال والموحدة بعدها راء، والثاني هو المعروف والمشهور في الروايات كلها والأول تصحيف، قال المهلب: إنما يبيع الإمام على الناس أموالهم إذا رأى منهم سفها في أموالهم، وأما من ليس بسفيه فلا يباع عليه شيء من ماله إلا في حق يكون عليه، يعني إذا امتنع من أداء الحق وهو كما قال: لكن قصة بيع المدبر ترد على هذا الحصر وقد أجاب عنها " بأن صاحب المدبر لم يكن له مال غيره، فلما رآه أنفق جميع ماله، وأنه تعرض بذلك للتهلكة نقض عليه فعله ولو كان لم ينفق جميع ماله لم ينقض فعله " كما قال للذي كان يخدع في البيوع " قل لا خلابة " لأنه لم يفوت على نفسه جميع ماله انتهى. فكأنه كان في حكم السفيه " فلذلك باع عليه ماله " والله أعلم. *3* الشرح: قوله (باب من لم يكترث بطعن من لا يعلم في الأمراء حديثا) أي " لم يلتفت " وزنه ومعناه وهو افتعال من " الكرث " بفتح أوله وسكون ثانية وآخره مثلثة، وهو " المشقة " ويستعمل نفيه في موضع عدم المبالاة. قال المهلب: معنى هذه الترجمة، أن الطاعن إذا لم يعلم حال المطعون عليه فرماه بما ليس فيه " لا يعبأ بذلك الطعن ولا يعمل به " وقيده في الترجمة " بمن لا يعلم " إشارة إلى أن " من طعن بعلم أنه يعمل به فلو طعن بأمر محتمل كان ذلك راجعا إلى رأي الإمام " وعلى هذا يتنزل فعل عمر مع سعد حتى عزله مع براءته مما رماه به أهل الكوفة، وأجاب المهلب " بأن عمر لم يعلم من مغيب سعد ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم من زيد وأسامة " يعني فكان سبب عزله قيام الاحتمال. وقال غيره " كان رأي عمر احتمال أخف المفسدتين " فرأى أن عزل سعد أسهل من فتنة يثيرها من قام عليه من أهل تلك البلد، وقد قال عمر: في وصيته " لم أعزله لضعف ولا لخيانة " وقال ابن المنير " قطع النبي صلى الله عليه وسلم بسلامة العاقبة في إمرة أسامة، فلم يلتفت لطعن من طعن، وأما عمر فسلك سبيل الاحتياط لعدم قطعه بمثل ذلك، وذكر حديث ابن عمر " في بعث أسامة " وقد تقدم شرحه مستوفى في أواخر الوفاة النبوية من " كتاب المغازي". الحديث: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَطُعِنَ فِي إِمَارَتِهِ وَقَالَ إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلْإِمْرَةِ وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ الشرح: قوله (فطعن في إمارته) بضم الطاء على البناء للمجهول، وقوله "إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه " أي إن طعنتم فيه فأخبركم بأنكم طعنتم من قبل في أبيه، والتقدير " إن تطعنوا في إمارته فقد أثمتم بذلك " لأن طعنكم بذلك ليس حقا كما كنتم تطعنون في إمارة أبيه وظهرت كفايته وصلاحيته للإمارة، وأنه كان مستحقا لها فلم يكن لطعنكم مستند، فلذلك لا اعتبار بطعنكم في إمارة ولده، ولا التفات إليه وقد قيل " إنما طعنوا فيه لكونه مولى " وقيل " إنما كان الطاعن فيه من ينسب إلى النفاق " وفيه نظر، لأن من جملة من سمي ممن طعن فيه عياش بتحتانية وشين معجمة ابن أبي ربيعة المخزومي، وكان من مسلمة الفتح لكنه كان من فضلاء الصحابة، فعلى هذا فالخطاب بقوله " إن تطعنوا لعموم الطاعنين " سواء اتحد الطاعن فيهما أم اختلف، وقوله "إن كان لخليقا " أي مستحقا وقوله " للإمرة " بكسر الهمزة. وفي رواية الكشميهني " للإمارة " وهما بمعنى. *3* الشرح: قوله (باب الألد الخصم) بفتح المعجمة وكسر الصاد المهملة، وقد تقدم بيان المراد به في " كتاب المظالم " وفي تفسير سورة البقرة، وقوله "وهو الدائم في الخصومة " من تفسير المصنف، ويحتمل أن يكون المراد " الشديد الخصومة " فإن الخصم من صيغ المبالغة فيحتمل الشدة ويحتمل الكثرة، وقوله "لدا " عوجا، وقع في رواية الكشميهني " ألد " أعوج وهو يرد على ابن المنير حيث صحف هذه اللفظة فقال: قوله " إدا " عوجا، لا أعلم لهذا في هذه الترجمة وجها إلا إن كان أراد أن " الألد " مشتق من اللدد، وهو الاعوجاج والانحراف عن الحق، وأصله من " اللديد " وهو جانب الوادي ويطلق على جانب الفم، ومنه " اللدود " وهو صب الدواء منحرفا عن وسط الفم إلى جانبه، فأراد أن يبين أن العوج يستعمل في المعاني كما يستعمل في الأعيان فمن استعماله في المعاني " اللدود والإد " وهو قوله تعالى {لقد جئتم شيئا إدا " أي شيئا منحرفا عن الصواب ومعوجا عن سمة الاعتدال. قلت: ولم أرها في شيء من نسخ البخاري هنا إلا باللام، وقد تقدم في تفسير سورة مريم نقله عن ابن عباس أنه قال " إدا عظيما " وعن مجاهد أنه قال " لدا عوجا " وذكرت هناك من وصلهما، ووجدت في تفسير عبد بن حميد من طريق معمر عن قتادة في قوله تعالى {قوما لدا} قال جدلا بالباطل، ومن طريق سليمان التيمي عن قتادة قال: " الجدل: الخصم " ومن طريق مجاهد قال " لا يستقيمون " وهذا نحو قوله " عوجا " وأسند ابن أبي حاتم من طريق إسماعيل ابن أبي خالد عن أبي صالح في قوله " وتنذر به قوما لدا " قال " عوجا عن الحق " وهو بضم العين وسكون الواو وفيه تقوية لما وقع في نسخ الصحيح " واللد " بضم اللام وتشديد الدال، جمع ألد وقد أسند ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال " اللد: الخصم " وكأنه تفسير باللازم لأن من اعوج عن الحق كان كأنه لم يسمع وعن محمد بن كعب قال " الألد: الكذاب " وكأنه أراد أن من يكثر المخاصمة يقع في الكذب كثيرا، وتفسير " الألد بالأعوج " على ما وقع عند الكشميهني يحمل على انحرافه عن الحق وتفسير " الألد بالشديد الخصومة " لأنه كلما أخذ عليه جانب من الحجة أخذ في آخر أو لأعماله لديديه، وهما جانبا فمه في المخاصمة. وقال أبو عبيدة في " كتاب المجاز " في قوله {قوما لدا} واحدهم ألد " وهو الذي يدعي الباطل ولا يقبل الحق " وذكر حديث عائشة في " الألد " وقد سبق شرحه وقوله " أبغض الرجال " إلخ قال الكرماني " الأبغض هو الكافر " فمعنى الحديث " أبغض الرجال الكفار " الكافر: المعاند أو بعض الرجال الخاصمين. قلت: والثاني هو المعتمد وهو أعم من أن يكون كافرا أو مسلما، فإن كان كافرا فأفعل التفضيل في حقه على حقيقتها في العموم، وإن كان مسلما فسبب البغض أن كثرة المخاصمة تفضي غالبا إلى ما يذم صاحبه أو يخص في حق المسلمين بمن خاصم في باطل ويشهد للأول حديث " كفي بك إثما أن لا تزال مخاصما " أخرجه الطبراني عن أبي أمامة بسند ضعيف وورد الترغيب في ترك الخاصمة، فعند أبي داود من طريق سليمان بن حبيب عن أبي أمامة رفعه " أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا " وله شاهد عند الطبراني من حديث معاذ بن جبل " والربض " بفتح البراء والموحدة بعدها ضاد معجمة " الأسفل". *3* الشرح: قوله (باب إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو رد) أى مردود. الحديث: حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدًا ح و حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا أَسْلَمْنَا فَقَالُوا صَبَأْنَا صَبَأْنَا فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ وَيَأْسِرُ وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ فَأَمَرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنَّا أَنْ يَقْتُلَ أَسِيرَهُ فَقُلْتُ وَاللَّهِ لَا أَقْتُلُ أَسِيرِي وَلَا يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مَرَّتَيْنِ الشرح: قوله (حدثنا محمود) هو ابن غيلان، وقوله "وحدثني أبو عبد الله نعيم بن حماد " كذا لأبي ذر عن ابن عمر، ولغيره قال أبو عبد الله وهو المصنف " حدثني نعيم " وساق غير أبي ذر أيضا السند إلى قوله عن ابن عمر بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالدا ووقع في رواية عبد الرزاق بسنده إلى سالم - وهو ابن عبد الله بن عمر - عن أبيه، وقد تقدم شرح هذا الحديث في المغازي في " باب بعث خالد إلى بني جذيمة " والغرض منه قوله صلى الله عليه وسلم "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد " يعني من قتله الذين قالوا: صبأنا قبل أن يستفسرهم عن مرادهم بذلك القول، فإن فيه إشارة إلى تصويب فعل ابن عمر ومن تبعه في تركهم متابعة خالد على قتل من أمرهم بقتلهم من المذكورين به وقال الخطابي: الحكمة في تبرئه صلى الله عليه وسلم من فعل خالد مع كونه لم يعاقبه على ذلك لكونه مجتهدا أن يعرف أنه لم يأذن له في ذلك خشية أن يعتقد أحد أنه كان بإذنه، ولينزجر غير خالد بعد ذلك عن مثل فعله ا هـ ملخصا. وقال ابن بطال: الإثم وإن كان ساقطا عن المجتهد في الحكم إذا تبين أنه بخلاف جماعة أهل العلم، لكن الضمان لازم للمخطئ عند الأكثر مع الاختلاف، هل يلزم ذلك عاقلة الحاكم أم بيت المال، وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك في " كتاب الديات " والذي يظهر: أن التبرأ من الفعل لا يستلزم إثم فاعله ولا إلزامه الغرامة، فإن إثم المخطئ مرفوع وإن كان فعله ليس بمحمود. *3* الشرح: قوله (باب الإمام يأتي قوما فيصلح بينهم) في رواية الكشمهيني " ليصلح " باللام بدل الفاء. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ الْمَدَنِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ كَانَ قِتَالٌ بَيْنَ بَنِي عَمْرٍو فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ أَتَاهُمْ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ فَلَمَّا حَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَأَذَّنَ بِلَالٌ وَأَقَامَ وَأَمَرَ أَبَا بَكْرٍ فَتَقَدَّمَ وَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ فِي الصَّلَاةِ فَشَقَّ النَّاسَ حَتَّى قَامَ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ فَتَقَدَّمَ فِي الصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ قَالَ وَصَفَّحَ الْقَوْمُ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَلْتَفِتْ حَتَّى يَفْرُغَ فَلَمَّا رَأَى التَّصْفِيحَ لَا يُمْسَكُ عَلَيْهِ الْتَفَتَ فَرَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُ فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ أَنْ امْضِهْ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ هَكَذَا وَلَبِثَ أَبُو بَكْرٍ هُنَيَّةً يَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ مَشَى الْقَهْقَرَى فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ تَقَدَّمَ فَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ إِذْ أَوْمَأْتُ إِلَيْكَ أَنْ لَا تَكُونَ مَضَيْتَ قَالَ لَمْ يَكُنْ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يَؤُمَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لِلْقَوْمِ إِذَا رَابَكُمْ أَمْرٌ فَلْيُسَبِّحْ الرِّجَالُ وَلْيُصَفِّحْ النِّسَاءُ الشرح: قوله (كان قتال بين بني عمرو) في رواية مالك عن أبي حازم الماضية في أبواب الإمامة " أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم " وقد تقدم شرحه مستوفى هناك وذكره هناك بلفظ " فليصفق والتصفيق " ووقع هنا بلفظ " فليصفح والتصفيح " وهما بمعنى وقوله في هذه الطريق " فلما حضرت صلاة العصر فأذن وأقام " قال الكرماني جواب الفاء في قوله " فلما " محذوف سواء كانت لما شرطية أو ظرفية والتقدير " جاء المؤذن " قلت: إنما اختصره البخاري وقد أخرجه أبو داود عن عمرو بن عوف عن حماد فقال فيه بعد قوله " ثم أتاهم ليصلح بينهم فقال لبلال إن حضرت صلاة العصر ولم آتك فمر أبا بكر فليصل بالناس، فلما حضرت العصر أذن بلال ثم أقام " فذكره، وقوله "أن أمضه " فعل أمر بالمضي والهاء للسكت، وقوله "هكذا " أي إشارة إليه بالمكث في مكانه، وقوله "يحمد الله " في رواية الكشميهني " فحمد الله " بالفاء بدل التحتانية وفي قوله " لم يكن لابن أبي قحافة " هضم لنفسه وتواضع حيث لم يقل لي ولا لأبي بكر وعادة العرب إذا عظمت الرجل ذكرته باسمه وكنيته أو لقبه، وفي غير ذلك تنسبه إلى أبيه ولا تسميه، قال ابن المنير: فقه الترجمة التنبيه على جواز مباشرة الحاكم الصلح بين الخصوم ولا يعد ذلك تصحيفا في الحكم، وعلى جواز ذهاب الحاكم إلى موضع الخصوم للفصل بينهم إما عند عظم الخطب وإما ليكشف ما لا يحاط به إلا بالمعاينة، ولا يعد ذلك تخصيصا ولا تمييزا ولا وهنا. (تنبيه) : وقع في نسخة الصغاني في آخر هذا الحديث قال أبو عبد الله لم يقل هذا الحرف " يا بلال فمر أبا بكر " غير حماد. *3* الشرح: قوله (باب يستحب للكاتب أن يكون أمينا عاقلا) أي كاتب الحكم وغيره، ذكر فيه حديث زيد ابن ثابت في قصته مع أبي بكر وعمر في جمع القرآن، وقد تقدم شرحه مستوفى في فضائل القرآن. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ أَبُو ثَابِتٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ بَعَثَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ لِمَقْتَلِ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَعِنْدَهُ عُمَرُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ فِي الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا فَيَذْهَبَ قُرْآنٌ كَثِيرٌ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ قُلْتُ كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عُمَرُ هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي فِي ذَلِكَ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ عُمَرَ وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ قَالَ زَيْدٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَإِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لَا نَتَّهِمُكَ قَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ قَالَ زَيْدٌ فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ بِأَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا كَلَّفَنِي مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ قُلْتُ كَيْفَ تَفْعَلَانِ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ يَزَلْ يَحُثُّ مُرَاجَعَتِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ اللَّهُ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَيَا فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنْ الْعُسُبِ وَالرِّقَاعِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ فَوَجَدْتُ فِي آخِرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إِلَى آخِرِهَا مَعَ خُزَيْمَةَ أَوْ أَبِي خُزَيْمَةَ فَأَلْحَقْتُهَا فِي سُورَتِهَا وَكَانَتْ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَيَاتَهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ اللِّخَافُ يَعْنِي الْخَزَفَ الشرح: حديث زيد ابن ثابت في قصته مع أبي بكر وعمر في جمع القرآن، وقد تقدم شرحه مستوفى في فضائل القرآن، والغرض منه قول أبي بكر لزيد " إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك " وقوله في آخره قال " محمد بن عبيد الله " بالصغير وهو شيخ البخاري الذي روى عنه هذا الحديث فسر " اللخاف " التي ذكرت في هذا الحديث، وهي بكسر اللام وتخفيف الخاء المعجمة بالخزف، وهي بفتح الخاء المعجمة والزاي بعدها فاء، وقد تقدم بيان الاختلاف في تفسيرها هناك، وحكى ابن بطال عن المهلب في هذا الحديث " أن العقل أصل الخلال المحمودة " لأنه لم يصف زيدا بأكثر من العقل وجعله سببا لائتمانه ورفع التهمة عنه. قلت: وليس كما قال فإن أبا بكر ذكر عقب الوصف المذكور " وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم " فمن ثم اكتفى بوصفه " بالعقل " لأنه لو لم تثبت أمانته وكفايته وعقله لما استكتبه النبي صلى الله عليه وسلم الوحي وإنما وصفه " بالعقل وعدم الاتهام " دون ما عداهما إشارة إلى استمرار ذلك له، وإلا فمجرد قوله " لا نتهمك " مع قوله " عاقل"، لا يكفي في ثبوت الكفاية والأمانة فكم من بارع في العقل والمعرفة وجدت منه الخيانة قال وفيه " اتخاذ الكاتب للسلطان والقاضي " وأن من سبق له علم بأمر يكون أولى به من غيره إذا وقع، وعند البيهقي بسند حسن عن عبد الله بن الزبير " أن النبي صلى الله عليه وسلم استكتب عبد الله بن الأرقم، فكان يكتب له إلى الملوك فبلغ من أمانته عنده أنه كان يأمره أن يكتب ويختم ولا يقرؤه، ثم استكتب زيد بن ثابت فكان يكتب الوحي ويكتب إلى الملوك، وكان إذا غابا كتب جعفر بن أبي طالب وكتب له أيضا أحيانا جماعة من الصحابة " ومن طريق عياض الأشعري عن أبي موسى " أنه استكتب نصرانيا فانتهره عمر " وقرأ فقال أبو موسى " والله ما توليته وإنما كان يكتب " فقال: " أما وجدت في أهل الإسلام من يكتب لا تدنهم إذ أقصاهم الله، ولا تأتمنهم إذ خونهم الله، ولا تعزهم بعد أن ذلهم الله". *3* الشرح: قول (باب " كتاب الحاكم " إلى عماله) بضم العين وتشديد الميم جمع عامل، وهو الوالي على بلد مثلا لجمع خراجها أو زكواتها أو الصلاة بأهلها أو التأمير على جهاد عدوها". قوله (والقاضي إلى أمنائه) أي الذين يقيمهم في ضبط أمور الناس ذكر فيه حديث سهل بن أبي حثمة في قصة عبد الله بن سهل وقتله بخيبر وقيام حويصة ومن معه في ذلك الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي لَيْلَى ح حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي لَيْلَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ هُوَ وَرِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ فَأُخْبِرَ مُحَيِّصَةُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قُتِلَ وَطُرِحَ فِي فَقِيرٍ أَوْ عَيْنٍ فَأَتَى يَهُودَ فَقَالَ أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ قَالُوا مَا قَتَلْنَاهُ وَاللَّهِ ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَذَكَرَ لَهُمْ وَأَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ فَذَهَبَ لِيَتَكَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُحَيِّصَةَ كَبِّرْ كَبِّرْ يُرِيدُ السِّنَّ فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ وَإِمَّا أَنْ يُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ بِهِ فَكُتِبَ مَا قَتَلْنَاهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ قَالُوا لَا قَالَ أَفَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودُ قَالُوا لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِ مِائَةَ نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتْ الدَّارَ قَالَ سَهْلٌ فَرَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ الشرح: حديث سهل بن أبي حثمة في قصة عبد الله بن سهل وقتله بخيبر وقيام حويصة ومن معه في ذلك، والغرض منه قوله فيه " فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم - أي إلى أهل خيبر - به " أي بالخبر الذي نقل إليه، وقد تقدم بيانه مع شرح الحديث في " باب القسامة " وقوله هنا " فكتب " ما قتلناه، في رواية الكشميهني " فكتبوا " بصيغة الجمع وهو أولى ووجه الكرماني الأول بأن المراد به " الحي المسمى باليهود " قال وفيه تكلف. قلت: وأقرب منه أن يراد " الكاتب عنهم " لأن الذي يباشر الكتابة إنما هو واحد فالتقدير " فكتب كاتبهم " قال ابن المنير: ليس في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى نائبه ولا إلى أمينه وإنما كتب إلى الخصوم أنفسهم لكن يؤخذ من مشروعية مكانته الخصوم والبناء على ذلك جواز مكاتبة النواب والكتاب في حق غيرهم بطريق الأولى. *3* الشرح: قوله (باب هل يجوز للحاكم أن يبعث رجلا وحده للنظر في الأمور) كذا للأكثر وفي رواية المستملي والكشميهني " ينظر " وكذا عند أبي نعيم ذكر فيه حديث أبي هريرة وزيد بن خالد في " قصة العسيف " وقد مضى شرحه مستوفي والغرض منه قوله عليه الصلاة والسلام " واغد يا أنيس على امرأة هذا " وقد تقدم الاختلاف في أن أنيسا كان حاكما أو مستخبرا، والحكمة في إيراده الترجمة بصيغة الاستفهام الإشارة إلى خلاف محمد ابن الحسن فإنه قال " لا يجوز للقاضي أن يقول أقر عندي فلان بكذا لشيء يقضي به عليه من قتل أو مال أو عتق أو طلاق، حتى يشهد معه على ذلك غيره " وادعى أن مثل هذا الحكم الذي في حديث الباب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم. قال "وينبغي أن يكون في مجلس القاضي أبدا عدلان يسمعان من يقر ويشهدان على ذلك فينفذ الحكم بشهادتهما " نقله ابن بطال وقال المهلب: فيه حجة لمالك في جواز إنفاذ الحاكم رجلا واحدا في الأعذار، وفي أن يتخذ واحدا يثق به يكشف عن حال الشهود في السر، كما يجوز قبول الفرد فيما طريقه الخبر لا الشهادة، قال: وقد استدل به قوم في جواز تنفيذ الحكم دون إعذار إلى المحكوم عليه؛ قال: وهذا ليس بشيء، لأن الإعذار يشترط فيما كان الحكم فيه بالبينة، لا ما كان بالإقرار كما في هذه القصة، لقوله " فإن اعترفت " قلت: وقد تقدم شيء من مسألة الإعذار عند شرح هذا الحديث. وَهَلْ يَجُوزُ تَرْجُمَانٌ وَاحِدٌ وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ الْيَهُودِ حَتَّى كَتَبْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُتُبَهُ وَأَقْرَأْتُهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ وَقَالَ عُمَرُ وَعِنْدَهُ عَلِيٌّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَعُثْمَانُ مَاذَا تَقُولُ هَذِهِ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَاطِبٍ فَقُلْتُ تُخْبِرُكَ بِصَاحِبِهَا الَّذِي صَنَعَ بِهَا وَقَالَ أَبُو جَمْرَةَ كُنْتُ أُتَرْجِمُ بَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَيْنَ النَّاسِ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لَا بُدَّ لِلْحَاكِمِ مِنْ مُتَرْجِمَيْنِ الشرح: قوله (باب ترجمة الحكام) في رواية الكشميهني " الحاكم " بالإفراد. قوله (وهل يجوز ترجمان واحد) يشير إلى الاختلاف في ذلك فالاكتفاء بالواحد قول الحنفية ورواية عن أحمد واختارها البخاري وابن المنذر وطائفة. وقال الشافعي وهي الرواية الراجحة عند الحنابلة " إذا لم يعرف الحاكم لسان الخصم، لم يقبل فيه إلا عدلين " لأنه نقل ما خفي على الحاكم إليه فيما يتعلق بالحكومة فيشترط فيه العدل كالشهادة، ولأنه أخبر الحاكم بما لم يفهمه فكان كنقل الإقرار إليه من غير مجلسه. قوله (وقال خارجة بن زيد بن ثابت عن زيد بن ثابت) هو أبوه. قوله (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتعلم) . " كتاب اليهود " في رواية الكشميهني " اليهودية " بزيادة النسبة والمراد بالكتاب " الخط". قوله (حتى كتبت للنبي صلى الله عليه وسلم كتبه) يعني إليهم (وأقرأته كتبهم) أي التي يكتبونها إليه، وهذا التعليق من الأحاديث التي لم يخرجها البخاري إلا معلقة وقد وصله مطولا في " كتاب التاريخ " عن إسماعيل ابن أبي أويس، حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة بن زيد بن ثابت عن زيد قال " أتى بي النبي صلى الله عليه وسلم مقدمة المدينة فأعجب بي، فقيل له: هذا غلام من بني النجار قد قرأ فيما أنزل الله عليك بضع عشرة سورة فاستقرأني فقرأت " ق " فقال لي: تعلم كتاب يهود، فإني ما آمن يهود على كتابي فتعلمته في نصف شهر، حتى كتبت له إلى يهود وأقرأ له إذا كتبوا إليه " ووقع لنا بعلو في فوائد الفاكهي عن ابن أبي ميسرة حدثنا يحيى بن قزعة حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه فذكره وفيه " فما مر بي سوى خمس عشرة ليلة حتى تعلمته " وأخرجه أبو داود والترمذي من رواية عبد الرحمن بن أبي الزناد قال الترمذي: حسن صحيح؛ وقد رواه الأعمش عن ثابت بن عبيد عن زيد بن ثابت " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتعلم السريانية". قلت: وهذه الطريق وقعت لي بعلو في فوائد هلال الحفار قال: حدثنا الحسين ابن عياش، حدثنا يحيى بن أيوب بن السري، حدثنا جرير عن الأعمش فذكره وزاد " فتعلمتها في سبعة عشر يوما " وأخرجه أحمد وإسحاق في " مسنديهما " وأبو بكر بن أبي داود في " كتاب المصاحف " من طريق الأعمش وأخرجه أبو يعلى من طريقه وعنده " إني أكتب إلى قوم فأخاف أن يزيدوا علي وينقصوا فتعلم السريانية " فذكره وله طريق أخرى أخرجها ابن سعد، وفي كل ذلك رد علي من زعم أن عبد الرحمن بن أبي الزناد تفرد به، نعم لم يروه عن أبيه عن خارجة إلا عبد الرحمن فهو تفرد نسبي، وقصة ثابت يمكن أن تتحد مع قصة خارجة " بأن من لازم تعلم كتابة اليهودية تعلم لسانهم ولسانهم السريانية. لكن المعروف أن لسانهم العبرانية فيحتمل أن زيدا تعلم اللسانين لاحتياجه إلى ذلك " وقد اعترض بعضهم على ابن الصلاح ومن تبعه في أن الذي يجزم به البخاري يكون على شرط الصحيح، وقد جزم بهذا مع أن عبد الرحمن بن أبي الزناد قد قال فيه ابن معين " ليس ممن يحتج به أصحاب الحديث، ليس بشيء " وفي رواية عنه " ضعيف " وعنه " هو دون الدراوردي " وقال يعقوب بن شبة " صدوق وفي حديثه ضعف " سمعت علي بن المديني يقول " حديثه بالمدينة مقارب وبالعراق مضطرب " وقال صالح بن أحمد عن أبيه " مضطرب الحديث " وقال عمرو بن علي نحو قول علي. وقالا " كان عبد الرحمن بن مهدي يحط على حديثه " وقال أبو حاتم والنسائي " لا يحتج بحديثه " ووثقه جماعة غيرهم كالعجلي والترمذي فيكون غاية أمره أنه " مختلف فيه " فلا يتجه الحكم بصحة ما ينفرد به بل غايته أن يكون حسنا، وكنت سألت شيخي الإمامين العراقي والبلقيني عن هذا الموضع فكتب لي كل منهما بأنهما " لا يعرفان له متابعا " وعولا جميعا على أنه عند البخاري " ثقة " فاعتمده وزاد شيخنا العراقي أن صحة ما يجزم به البخاري لا يتوقف أن يكون على شرطه وهو تنقيب جيد، ثم ظفرت بعد ذلك بالمتابع الذي ذكرته فانتفى الاعتراض من أصله ولله الحمد. قوله (وقال عمر) أي ابن الخطاب (وعنده علي) أي ابن أبي طالب (وعبد الرحمن) أي ابن عوف (وعثمان) أي ابن عفان (ماذا تقول هذه) أي المرأة التي وجدت حبلى (قال عبد الرحمن بن حاطب فقلت: تخبرك بصاحبها الذي صنع بها) وصله عبد الرزاق وسعيد بن منصور من طرق عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه نحوه. قول (وقال أبو جمرة كنت أترجم بين ابن عباس وبين الناس) هذا طرف من حديث أخرجه المؤلف في " العلم " من رواية شعبة عن أبي جمرة فذكره وبعده فقال " إن وفد عبد القيس أتوا النبي صلى الله عليه وسلم " فذكر الحديث في قصتهم وهو عند النسائي بزيادة بعد قوله " وبين الناس فأتته امرأة فسألته عن نبيذ الجر فنهى عنه وقال إن وفد عبد القيس " الحديث. قوله (وقال بعض الناس لا بد للحاكم من مترجمين) نقل صاحب المطالع أنها رويت بصيغة الجمع وبصيغة التثنية، ووجه الأول: بأن الألسنة قد تكثر فيحتاج إلى تكثير المترجمين. قلت: والثاني هو المعتمد، والمراد " ببعض الناس " محمد بن الحسن فإنه الذي " اشترط أن لا بد في الترجمة من اثنين ونزلها منزلة الشهادة وخالف أصحابه الكوفيين " ووافقه الشافعي فتعلق بذلك مغلطاي فقال: فيه رد لقول من قال: إن البخاري إذا قال. قال بعض الناس يريد الحنفية وتعقبه الكرماني فقال: يحمل على الأغلب أو أراد هنا بعض الحنفية لأن محمدا قائل بذلك ولا يمنع ذلك أن يوافقه الشافعي كما لا يمنع أن يوافق الحنفية في غير هذه المسألة بعض الأئمة الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَقَالَ لِلتُّرْجُمَانِ قُلْ لَهُ إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ الشرح: حديث أبي سفيان في قصة هرقل، وقد أخرجه في بدء الوحي بهذا السند مطولا والغرض منه. قوله "ثم قال لترجمانه قل له " إلخ. قال ابن بطال: لم يدخل البخاري حديث هرقل حجة على جواز الترجمان المشترك، لأن ترجمان هرقل كان على دين قومه، وإنما أدخله ليدل على أن الترجمان كان يجري عند الأمم مجرى الخبر لا مجرى الشهادة. وقال ابن المنير: وجه الدليل من قصة هرقل مع أن فعله لا يحتج به أن مثل هذا صواب من رأيه لأن كثيرا مما أورده في هذه القصة صواب موافق للحق، فموضع الدليل تصويب حملة الشريعة لهذا وأمثاله من رأيه وحسن تفطنه ومناسبة استدلاله وإن كان غلبت عليه الشقاوة، انتهى. وتكملة هذا أن يقال: " يؤخذ من صحة استدلاله فيما يتعلق بالنبوة والرسالة أنه كان مطلعا على شرائع الأنبياء " فتحمل تصرفاته على وفق الشريعة التي كان متمسكا بها، كما سأذكره من عند الكرماني، والذي يظهر لي أن مستند البخاري تقرير ابن عباس وهو من الأئمة الذين يقتدي بهم على ذلك؛ ومن ثم احتج باكتفائه بترجمة أبي جمرة له، فالأثران راجعان لابن عباس أحدهما من تصرفه والآخر من تقريره، وإذا انضم إلى ذلك فعل عمر ومن معه من الصحابة ولم ينقل عن غيرهم خلافه قويت الحجة؛ ولما نقل الكرماني كلام ابن بطال تعقبه بأن قال " أقول وجه الاحتجاج أنه كان يعني هرقل نصرانيا، وشرع من قبلنا حجة لنا ما لم ينسخ " قال وعلى قول من قال: أنه أسلم، فالأمر ظاهر. قلت: بل هو أشد إشكالا لأنه لا حجة في فعله عند أحد إذ ليس صحابيا ولو ثبت أنه أسلم فالمعتمد ما تقدم، والله أعلم. قال ابن بطال: " أجاز الأكثر ترجمة واحد " وقال محمد بن الحسن " لا بد من رجلين أو رجل وامرأتين " وقال الشافعي " هو كالبينة " وعن مالك روايتان قال: وحجة الأول ترجمة زيد بن ثابت وحده للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي جمرة لابن عباس وأن الترجمان لا يحتاج إلى أن يقول أشهد بل يكفيه مجرد الإخبار وهو تفسير ما يسمعه من الذي يترجم عنه ونقل الكرابيسي عن مالك والشافعي " الاكتفاء بترجمان واحد " وعن أبي حنيفة " الاكتفاء بواحد " وعن أبي يوسف " اثنين " وعن زفر " لا يجوز أقل من اثنين " وقال الكرماني الحق أن البخاري لم يحرر هذه المسألة إذ لا نزاع لأحد " أنه يكفي ترجمان واحد عند الإخبار وأنه لا بد من اثنين عند الشهادة " فيرجع الخلاف إلى أنها إخبار أو شهادة، فلو سلم الشافعي أنها إخبار لم يشترط العدد؛ ولو سلم الحنفي أنها شهادة لقال بالعدد، والصور المذكورة في الباب كلها إخبارات، أما المكتوبات فظاهر، وأما قصة المرأة وقول أبي جمرة فأظهر فلا محل لأن يقال على سبيل الاعتراض. وقال بعض الناس: بل الاعتراض عليه أوجه فإنه نصب الأدلة في غير ما ترجم عليه وهو ترجمة الحاكم إذ لا حكم فيما استدل به، انتهى. وهو أولى بأن يقال في حقه أنه ما حرر فإن أصل ما احتج به " اكتفاء النبي صلى الله عليه وسلم بترجمة زيد بن ثابت واكتفائه به وحده " وإذا اعتمد عليه في قراءة الكتب التي ترد، وفي كتابة ما يرسله إلى من يكاتبه، التحق به اعتماده عليه فيما يترجم له عمن حضر من أهل ذلك اللسان، فإذا اكتفى بقوله في ذلك وأكثر تلك الأمور يشتمل على تلك الأحكام وقد يقع فيما طريقه منها الإخبار ما يترتب عليه الحكم فكيف لا تتجه الحجة به للبخاري وكيف يقال أنه ما حرر المسألة وقد ترجم المحب الطبري في الأحكام " ذكر اتخاذ مترجم والاكتفاء بواحد " وأورد فيه حديث زيد بن ثابت وما علقه البخاري عن عمر وعن ابن عباس ثم قال: احتج بظاهر هذه الأحاديث من ذهب إلى جواز الاقتصار على مترجم واحد ولم يتعقبه. وأما قصة المرأة مع عمر، فظاهر السياق " أنها كانت فيما يتعلق بالحكم " لأنه درأ الحد عن المرأة لجهلها بتحريم الزنا بعد أن ادعى عليها وكاد يقيم عليها الحد " واكتفى في ذلك بإخبار واحد يترجم له عن لسانها " وأما قصة أبي جمرة مع ابن عباس وقصة هرقل فإنهما وإن كانا في مقام الإخبار المحض فلعله إنما ذكرهما استظهارا وتأكيدا، وأما دعواه أن الشافعي لو سلم أنها إخبار لما اشترط العدد إلخ فصحيح، ولكن ليس فيه ما يمنع من نصب الخلاف مع من يشترط العدد، وأقل ما فيه " إنه إطلاق في موضع التقييد " فيحتاج إلى التنبيه عليه وإلى ذلك يشير البخاري " بتقييده بالحاكم فيؤخذ منه أن غير الحاكم يكتفي بالواحد لأنه إخبار محض وليس النزاع فيه وإنما النزاع فيما يقع عند الحاكم فإن غالبه يؤول إلى الحكم ولا سيما عند من يقول " إن تصرف الحاكم بمجرده حكم " وقد قال ابن المنذر " القياس يقتضي اشتراط العدد في الأحكام، لأن كل شيء غاب عن الحاكم لا يقبل فيه إلا البينة الكاملة " والواحد ليس بينة كاملة حتى يضم إليه كمال النصاب، غير أن الحديث إذا صح سقط النظر وفي الاكتفاء بزيد بن ثابت وحده حجة ظاهرة لا يجوز خلافها انتهى. ويمكن أن يجاب أن ليس غير النبي صلى الله عليه وسلم من الحكام في ذلك مثله لإمكان اطلاعه على ما غاب عنه بالوحي بخلاف غيره بل لا بد له من أكثر من واحد، فمهما كان طريقه الإخبار يكتفي فيه بالواحد، ومهما كان طريقه الشهادة لا بد فيه من استيفاء النصاب، وقد نقل الكرابيسي " أن الخلفاء الراشدين والملوك بعدهم لم يكن لهم إلا ترجمان واحد " وقد نقل ابن التين من رواية ابن عبد الحكم " لا يترجم إلا حر عدل " وإذا أقر المترجم بشيء فأحب إلي أن يسمع ذلك منه شاهدان ويرفعان ذلك إلى الحاكم.
|